العنقاء للثقافة

مجلتك الثقافية

مجتمع

غار داية: حاضنة القصور وعادات مرسخة للأجيال

تتميّز ولاية غار داية بالعديد من القصور العتيقة ذات هندسة معمارية تزيد عن ألف سنة، متجانسة في ألوانها ومتشابهة في طابعها العمراني، كلها متناسقة على شكل هرمي، منها 5 قصور مصنّفة ضمن التراث العالمي، وهي قصور سهل وادي ميزاب التي تعود إلى القرن الحادي عشر، هذا التراث الحضاري العريق والبيوت التقليدية الواقعة بواحات النخيل، وما تزخر به المنطقة من معالم تاريخية وأسواق وفنون وعادات شعبية، يستحق أن تعطى له كل الأهمية لإبرازه من جديد، لاسيّما أنه يرمز إلى الهوية الثقافية لمنطقة غار داية.
قدرات الولاية من التراث المادي خاصة، يؤهلها لأن تساهم في تنمية قطاع السياحة والصناعة التقليدية المحلية، بالتالي، جذب السيّاح واستكشاف تاريخ وحضارة المنطقة، وفي هذا الإطار، تصبو السلطات المحلية والمركزية إلى رفع التجميد عن بعض عمليات الترميم لبعض القصور.
القصور.. إرث عريق بحاجة إلى الحماية والتثمين:
تختلف الثقافات في الجزائر باختلاف المميّزات المعمارية المنحصرة في كل مجموعة موجودة على تراب كل ولاية، وولاية غار داية لها خاصيتان لا تمتاز بهما ولايات أخرى.
تتمثل الخاصية الأولى في الطراز المعماري الذي انفردت به هذه المنطقة، وهو طراز مميّز، يلاحظ في بناء القصور المتواجدة بولاية غار داية، منها مجموعة من القصور تحيط بسهل وادي ميزاب، وقصور أخرى متواجدة في مناطق أخرى من الولاية.
بخصوص القصور التي تحيط بمنطقة وادي ميزاب، نذكر قصر غار داية، بني يزقن، بونورة، مليكة وقصر العطف، وخارج مدينة غار داية، هناك قصر المنيعة، قصر متليلي، قصر بريان، وقصر ضاية بن دحو، وحسب دراسة قام بها مكتب دراسات للتراث المادي في الولاية، فإن مساحة هذه القصور تقارب 150 كيلومترا مربعا، كما أن الخاصّية الأساسية والانفرادية للعمارة الخاصة بالقصور، تظهر من الوهلة الأولى للزائر على شكل أهرامات فوق الصخور، وتمتاز هذه القصور بعدة معالم تاريخية موجودة إلى يومنا هذا، منها المعلم التاريخي، وهو المسجد الذي يعد من العناصر المعمارية التراثية المهمّة في القصر، إلى جانب معالم أخرى متواجدة داخل القصر، سواء من بيوت أو أقواس، لها خاصيّة مقارنة بالعمارة الإسلامية الأخرى، وفيما يخص المادة التي استعملت في بناء القصور، فهي مادة محلية من الطين والجير المحليين، ويلاحظ أن لهذه القصور لون واحد تنفرد به، وهو لون الصحراء والرمال، عكس ما يوجد في قصور أدرار وتمنراست التي يميل لون قصورها إلى الاحمرار أكثر.
هناك اختلاف بين قصور غار داية والقصور المتواجدة في عمق الصحراء، حيث أن قصور غار داية مبنية على شكل هرم، أما القصور الأخرى في صحراء الجزائر الواسعة، فهي قصور في شكل بنايات محيطة بأسوار عالية، حيث يرى الزائر أن القصر فيه خاصيّة الحصون، بالإضافة إلى ذلك، جميع قصور ولاية غار داية مبنية على مرتفعات، حيث يشاهدها الزائر مباشرة لدخوله إلى غار داية.
أما الخاصيّة الثانية التي تنفرد بها قصور غار داية، تتمثل في أن كل القصور المتواجدة على ضفاف سهل ميزاب يعيش فيها السكان، بمعنى أن هذا التراث حي، وهذا ما لا نجده في أماكن أخرى، ربّما في قصبة الجزائر العاصمة، أو قصبة بومرداس أو قصبة الشلف، لكن أكثر القصور المأهولة بالسكان هي قصور غار داية، بالتالي، فإن لهاتين الخاصيتين أهميّة كبيرة، مما يستوجب متابعة دائمة لهذه القصور من حيث الترميمات وإعادة تأهيلها وتثمين قيمتها.
الزربية ارتباط بالماضي وتمسك بالأصالة:
تمتاز الصناعة التقليدية في غار داية بالجودة وروعة أشكالها، وهي تختلف من منزل إلى آخر ومن محل إلى آخر، وتعتبر زربية غار داية من أهم الصناعات التقليدية التي تلقى رواجا كبيرا بالمنطقة، حيث يتم تنظيم بخصوصها كل سنة، مهرجان في شهر مارس يعرف بعيد الزربية، تتميّز بأشكال وألوان ورموز مختلفة، وتختلف من حيث النقوش، منها “الحنبل” الذي يتميّز بالخطوط المزركشة، “النيلة” بها عدة نقوش وأبواب، وكل باب له نقوش عديدة، مثل العقرب والمفتاح والمقص والفول وغير ذلك، زربية “جبل لعمور”، زربية “كوكبة” وهي عبارة عن كواكب، زربية “بني يزقن” التي تتميّز بالنقوش والخطوط و”البربوش”، ويقال إن المرأة عندما تنوي نسج الزربية، تفكر في رموزها ونقوشها، حسب ما تتمنّاه.
من أهم الحرف التقليدية أيضا، صناعة “المناديل”، وهو غطاء أوعية الطعام، خاصة “تازوضا”، مصنوعة من الصوف لاستعمالها في المناسبات والأعراس، حيث تغطى بها “قصعة” العروس المعروفة باسم “قصعة لعوايد” من الطعام، أي الكسكسي أو “الرفيس”، كذلك حرفة تحضير الصوف للمنسج المحلي، من “البشم” و”الدباغة”، وهي عملية غسل الصوف، وبعدما تجف، يتم ضربها حتى ينزع الغبار و”الحسكة” عنها، وبعد ذلك توضع الصوف في “الدباغة”، لتتم عملية الغزل حتى تصبح خيوطا، وتلف في شكل “كبة صوف” باستعمال آلة تقليدية تعرف باسم “الكبابة”، وفي الأخير يتم صباغتها بمختلف الألوان، وبعدما تنتهي المرأة من صناعة الزربية، يأخذها الزوج إلى السوق العتيق المتواجد بوسط مدينة غار داية لتسويقها في يوم الخميس، يسمى بـ«السوّاق”.
من خلال تحويل ألياف النخيل المعروف بـ”سان”، يمتهن سكان غار داية حرفة الحبال والقفف والأفرشة، كما يعتمد السكان على صناعة الجير في البناء، وهي من مواد البناء المعتمدة، حيث يعرف بمقاومته للرطوبة، فهو يستعمل بالأساس في بناء منشآت الري وصقل الأسطح، وتعتبر حرفة استخراج مشروب “اللاقمي”، أي “اسوفغ ن لاقمي”، من أهم النشاطات التي يقوم بها السكان في فصل الصيف، و”اللاقمي” مشروب حلو المذاق يستخرج من قلب النخلة، كما تعد عملية تحضير الجلود كمادة أولية لصناعة الأحذية والألبسة الجلدية والسروج وغير ذلك، إرثا قديما تناقل أبا عن جد، ناهيك عن تحضير قوالب من الطين لبناء الجدران في بيوت الاصطياف والإحاطة في الواحة خاصة، إلى جانب الألبسة الصوفية والنقش على النحاس والخشب والفخار والتحف الفنية والنجارة والحدادة التقليديتين.
“الغنبوز” و”تشاشيت”.. اللباس المميّز للسكان:
يعد اللباس التقليدي “الغنبوز” أي “الحايك” و”تشاشيت” أي “الشاشية” أو القبعة البيضاء التي يرتديها الرجال، من الخصوصيّات التقليدية الراسخة في أوساط سكان غار داية الذين لا زالوا يحافظون عليه، لتمسّكهم بهويّة الذّات والتعريف بتقاليد المنطقة، و”الغنبوز” يشبه “الحايك” العاصمي، وهو سترة للمرأة في غار داية.
في السابق كانت البنت غير المتزوّجة ترتديه ويسمح لها بكشف وجهها، أما المرأة المتزوّجة فعندما تلبس “الغنبوز”، تغطي كامل وجهها وتترك فقط عينا واحدة تسمّى “بوعوينة”، وإلى يومنا هذا، لا زالت العائلات محافظة على “الغنبوز”، كما تعد “الملحفة” من أهم الألبسة التقليدية لنساء المنطقة، تُستعمل فيها عدّة أكسسوارات للشعر، منها “تيجولان” بالعربية “الفتول” يكون لاصقا في الشعر من ناحية الظهر، وهو مثيل لـ”الشدّة” التلمسانية، و”الصرمية” والخواتيم والشنقالات، وكذا “الكمبوشة”، وهي عبارة عن ريش النعام يتم قصّه واستعماله للزينة، ثم يوضع فوق رأس العروس، والمعنى من ذلك، أن العروس أصبحت مثل الملكة، وتصنع “الكمبوشة” عند أهل العريس، وتلبس العروس “الملحفة” في زفافها أثناء الحنّة ويوم الحمام، والبنت عندما تكون في بيت أهلها تضع الملحفة العادية باللون الأحمر، ولما ترحل إلى بيت زوجها، مباشرة في اليوم السابع من زفافها، تضع الملحفة البيضاء مع “الكمبوشة”.
نموذج ملحفة عروس الشعانبة يختلف عن نموذج ملحفة العروسة المزابية، فعند المزاب تضع العروس ملحفة “الكسا” باللون الأحمر والأبيض والأصفر والأخضر وغير ذلك، أما العروس الشعانبية فلها ملحفة حمراء، وفي الحاشية تكون باللون الأخضر والأبيض.
كما تشتهر نساء غار داية بلباس “روبة العرب”، وهو لباس معروف يرمز للأصالة، شبيه باللباس النايلي، بحكم أن الأغواط سابقا، كانت تابعة لولاية غرداية، ترتديه في الأفراح والأعراس مع البرينيس (تصغير لكلمة برنوس)، ومن بين الجواهر المستحبة، “السخاب” المصنوع يدويا من “القمحة والقرنفل والذريرية والمسك واللبان والسنيبلة والعنبر”، حيث يتم طحن كل هذه العقاقير من اللبان والقرنفل والقمحة وخلطهم مع المسك والعنبر، وبعد عجن الخليط، يتم لصقه في خيط متين، يقدّم للعرائس في ليلة الحنّة يسمّى “سخاب غرداية”.
“زيريزا”، المريسة” و”الكبوشة” أطباق لا يستغنى عنها:
من أهم الأطباق التي تتميّز بها غار داية في شهر رمضان الفضيل، طبق “زيريزا” الذي يعد من “الكليلة”، وهي عبارة عن حليب الماعز أو النعجة أو الناقة، يكون مجفّفا، يوضع تحت الرمل حتى يصبح محجرا، وبعدما ينزع منه الرمل، يتم نفضه من الغبار، ثم تفتيته وطحنه عند العشّاب، يضاف إليه التمر والدهان أي “الزبدة العربية”، يصبح اسمها “زريزة”، ويتم تناولها في فطور رمضان مع الحليب والتمر، وكذلك في السهرة وحتى في السحور، لا يخلو بيت أو منزل في غار داية من تحضير طبق “زيريزة”، إلى جانب “تاذيبة”، وهو طبق تقليدي عبارة عن قمح نصف مطحون يستعمل مع التمر والدهان العربي، هي أكلة جد مفيدة لما تحتويه من فيتامينات، خاصة للعظام، ويتم تناولها مع اللبن في الغداء والعشاء، وهناك من يستعملها مع أكلة “الرفيس”، الذي بعد ما يتم إعداده، توضع “الزريزة” في وسطه، إضافة إلى ذلك، نجد معظم سكان غار داية يفضلون شرب عصير “التكرْوَايت” أو “الكرواية” المشهور في غار داية، ومصنوع من 40 عشبة، والعشبة الأساسية القرنفل بنسبة كبيرة جدا، إلى جانب الريحان، فهذا العصير مفيد للأمعاء ومنشّط، يباع في المحلات، كما يستعمل في شهر رمضان بإضافة الليمون له.
كما يعتبر طعام “المريسة”، وهو الكسكسي بالمرق، يصنع بـ”الكابويا” أي اليقطين، من أهم الأطباق ويتم التركيز على اليقطين في هذه الأكلة، بإضافة التمر، حيث يكون الذوق حلوا، أما “الرفيس” فيطبخ بالدقيق والماء والملح وقليل من الزيت على شكل فطائر، وهو شبيه بـ”الغرايف” أي “البغرير”، ويتم طبخه باستعمال ماكينة خاصة بهذا الطبق في منطقة غار داية، ويُقدم “الرفيس” في قصعة “العوايد” في مناسبات الأفراح والأعراس وفي حفلات الختان، دون أن ننسى “المردود”، إذ نجد المردود العادي ومردود “الصْرايَر”، والمردود هو “البركوكس”، و”الصْرايَر” عبارة عن مجموعة من الأعشاب المجفّفة، مثل “الفليو والقرطوفة”، في حين تحضر “الكبوشة” خصّيصا للمرأة النافس، بتقديم “الفيْلة”، وهي الفول صغير الحجم في بداية نضجه، يتم طبخه في الماء والملح، مثل العصيد، وبعدما يبرد يصبح جامدا، وبمجرد نزعه من النار، تضاف له حبات القرنفل والكمون والدهان الحر وحبّة بيض، ويقدم في الصباح للمرأة النافس، وهو مفيد لازدراء الحليب، وللرأس.
أعراف يجب احترامها:
من بين عادات أهل غار داية، يقوم العريس بعقد القران وفاتحة الكتاب بحضور الأئمة والأهل والأصدقاء وشيوخ المنطقة، في يوم العرس تقدم له حقيبة تتوفر على مجموعة من الأدوات الخاصة بالعريس، يقدمها له الوزير أو اثنين من الوزرة (المكلف بخدمة العريس مدة العرس)، تحتوي الحقيبة على البرنوس، المحرمة الحمراء، الخنجر والسيف، البندقية، العقال، الشاش، المرود والكحل، البخور، الريحة والشبشب (حذاء خاص بالعريس) والسروال العربي، وكذا البرنوس المصنوع من وبر الجمل سواء باللون الأبيض أو البني، ويوم الحنّة تسمى بليلة “تلباس العريس”، تحضر مجموعة من الأئمة يتلون القرآن الكريم، ويؤدون الأناشيد وأهازيج خاصة بذلك، فيما يقوم واحد من الأئمة بإلباس العريس، بمساعدة الوزير، مع تمشيط شعره وتكحيل العين، وإلباسه العقال (عبارة عن حلقة دائرية توضع فوق رأس العريس تكون مرصعة باللون الأصفر الذهبي والأسود وتشبه اللباس الخليجي)، ترمز إلى تاج الرجل، بمعنى أن العريس ملك في يوم زفافه، وفي الأخير يتم ربط المحرمة الحمراء في القميص في مكان الأزرار، ويشد العريس السيف والخنجر رمزا للشهامة والرجولة، كما تنظم سهرة عند أهل العروس تحضرها النساء والبنات، وتشرع الماشطة “تايا” بوضع الحنّة على يدي وقدمي العروس مع ترديد أهازيج الفرح، كما تقوم بتمشيطها وتزينيها وتعطيرها.
وردة زرقين

اترك ردا