العنقاء للثقافة

مجلتك الثقافية

أبحاث ودراسات

الكتابات الأدبية الجدارية بحاجة إلى التفاتة

تُعدّ الكتابات الأدبية الجدارية من الأدب الهامشي، ومن أقوى الخطابات الثقافية؛ لما تحمله من رسائل مشفّرة حول الحالة النفسية بطريقة عفوية، وبأشكال معبّرة عن الحياة، ظهرت مع ظهور الإنسان، وتجسّد رغبة عاطفية وفكرية لها دلالات عميقة، تكشف عن عمق الثقافة الجماهيرية؛ فما مفهومها؟ وما هي الأبعاد الدلالية والفكرية التي تتضمنها؟ أشكالها وتاريخها؟ ولماذا لم تعرف الخطابات الأدبية الجدارية نقدا؛ كونها تعبّر عن الثقافة الجماهيرية؟.. “المساء” اتصلت بالمختصين في المجال، وكان هذا المقال.
الدكتور عبد الغني خشة: يجب الانتباه إلى الكتابات الجدارية وإخضاعها للتحليل الأنثروبولوجي
قال الدكتور عبد الغني خشة من جامعة “8 ماي 1945” بقالمة، ل”المساء”، إن الكتابة الجدارية تشكل ملحما هامشيا مقارنة بالتعبيرات الأخرى التي تدخل في نطاق المركز، لكن رغم هذا تحاول هذه الجداريات أن تأخذ لها مكانة ضمن الأبحاث الأكاديمية والعلمية باحتشام. والحقيقة أن هذا النشاط الإنساني الإبداعي مركزي، مقنَّع بشعارات هامشية لا غير؛ حيث يحمل حديث الجدران رسائل مشفّرة حول الحالة الإنسانية الراهنة، وما تعيشه من تمزقات وجدانية واجتماعية. ويكشف عن نشأة “نمط حياة جماعي، يتّسم بنوع من الهامشية إزاء المجتمع” . وأضاف أن الكتابات الجدارية تندرج ضمن أبسط وأقدم أشكال التواصل الكتابي التقليدي. وتسمى أيضا “الرسومات /الكتابات الحائطية” . كما شاع استعمال كلمة “غرافيتيس” للدلالة عليها؛ إذ يُعد الفن الغرافيتي من الفنون القديمة التي ظهرت مع ظهور الإنسان.
وأوضح الدكتور خشة أن الكتابات الأدبية الجدارية تتميز بالعشوائية والطابع العفوي، وكثيرا ما توحي بمواقف هزلية. وفي مرات أخرى، مواقف جدية مؤلمة، لها دلالات مضمرة أحيانا؛ حيث تحمل رسائل مشفرة، ولها دلالات مباشرة أحيانا أخرى.
والكتابة الجدارية في عمومها قديمة قدم الإنسان الذي اهتدى إليها لتلبية حاجته في التعبير عن حكمته وأحاسيسه وقضاياه. نجدها في أماكن تعبّر عن الثقافة الهامشية لمجتمع ما، كاشفة عن عمق الثقافة الجماهيرية. ويمكن تصنيفها ضمن دائرة الأدب الهامشي، التي أضحت، اليوم، من أقوى الخطابات الثقافية؛ على اعتبار أن الهامش يزخر، هو الآخر، كأيّ خطاب، بالمعنى؛ لأن هذه الخطابات وُجدت بدواع نفسية أو اجتماعية أو سياسية وغيرها؛ كمتنفَّس؛ باعتبارها جمالية جديدة؛ حيث أصبحت ظاهرة إنسانية، وحالة ثقافية جديدة اجتاحت المجتمع، يتم، عن طريقها، توصيل رسالة باستهداف متلقّ خاص، متجلية على الجدران مجهولة المؤلف.
كما أكد المتحدث أن هذه الكتابات باعتبارها ظاهرة عالمية، حظيت باهتمام الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع وغيرهم؛ لإضمارها رسائل تعكس الحياة الاجتماعية في فترة معيّنة؛ حيث تستمدّ الشوارع حيويتها من خلال بنيتها التداولية التي تظهر في شكل نقاشات عمومية، تحمل بعدا خطابيا أو أثرا كتابيا؛ فإمكانات الولوج إلى الفضاء العام سواء من الناحية النفسية أو الاجتماعية، تفرض شفرة سردية، وحقلا تواصليا معيّنا، على نحو يتحول فيه هذا الحيز المجالي إلى موضوع للحركة، وبالتالي يدفعنا الأثر الفني للتفكير، لا سيما وهو يعبّر عن حالة ذهنية مخصوصة، ويحمل رموزا ودلالات ومعاني وجب الانتباه إليها، وإخضاعها للتحليل الأنثروبولوجي، وفهم خلفيات توظيفها.
الدكتور وليد بوعديلة: منح الشباب جدرانا لنقل الخواطر يساهم في الترويج السياحي وتجميل المدن
من جهته، قال الدكتور وليد بوعديلة من جامعة “20 أوت 1955 بسكيكدة، إن الكتابات الأدبية والأشكال التعبيرية على الجدران تمتد في عمق تاريخ الأمم والشعوب، ولا يمكن تحديد تاريخ بداياتها بدقة؛ تكفي العودة إلى الحضارات الشرقية القديمة للبحث فيها؛ سواء عند الفينيقيين أو الكنعانيين، وصولا إلى الفراعنة، ومرورا بأمم مختلفة، بما فيها السومرية والآشورية. وأضاف أن الكتابات الجدارية لخّصت أساطير وثقافات وطقوسا وشعائر وحروب بلاد الساحل الشامي، وبلاد الرافدين، وأعماق الصحراء الجزائرية بكتابات ورسومات، وأشكال معبّرة عن حياة وإنسان الأمم الغابرة.
وأوضح الدكتور بوعديلة أيضا أن الكتابات الحائطية تنقل المشاعر والأفكار، وتجسّد رغبة عاطفية وفكرية في تجاوز السائد والجاهز من القيم الاجتماعية والممارسات السياسية وعالم الأفكار، وضيق أفق التعبير. وواصل: “رغم أننا في زمن شبكات التواصل الاجتماعي، أرى أن هذه الكتابات تجسّد عالم وأشكال وأذواق اتجاهين من الشباب؛ النوع الأول يغامر ويكتب بلا معرفة بالخطوط والجماليات والألوان، وإنما يحمل القلم أو الدهان، ويجسّد بعض قناعاته وأحلامه فقط. والنوع الثاني عارف بالخطوط وبالجماليات، وبفنون التشكيل والرسم. وقد تكون له موهبة، أو يكون دارسا في معهد للفنون، أو دارسا للخطوط العربية أو اللاتينية”.
ودعا المتحدث مؤسسات الدولة للمساهمة في منح الشباب فضاءات وجدرانا عبر المدن؛ للتعبير، والبوح، ونقل الخواطر والأفكار بطريقة جمالية، تساهم في الترويج السياحي، وتجميل المدن، مع ضرورة قراءة كل ما يُكتب، والانتباه لمضامينه؛ بسبب الكوارث والجرائم التي قد تحدث بدون الانتباه لها رغم أنها مكتوبة على جدران العمارات والشوارع منذ سنوات، مثلما حدث سابقا؛ قال: “نحن لم ننتبه، ولم نتحرك عند كتابات الشباب شعارات الهجرة غير الشرعية، أو الأفكار المتطرفة دينيا واجتماعيا وسياسيا، وغيرها من الممارسات السلبية”.
البروفيسور رزيقة طاوطاو: صنعة جمالية جديدة لكنها منسية على الصعيد النقديّ
أوضحت البروفيسور رزيقة طاوطاو من جامعة “العربي بن مهيدي” بأم البواقي، أن تاريخ الكتابات الجدارية يعود إلى عصور ما قبل التاريخ؛ حيث كان الإنسان البدائي يعبّر عن انفعالاته وأفكاره ومحاكاته الطبيعة من خلال النقوش والرسوم على الجدران والكهوف والمغارات أو الألواح والحجارة، مستعملا أداوت بسيطة بدائية في محتواها؛ مثل كهوف الطاسيلي في الجزائر التي اكتُشفت في عام 1938.
وفي الوقت الراهن أصبحت الكتابة الجدارية ظاهرة عالمية، حظيت باهتمام المتخصصين الذين خصصوا لها فضاءات واسعة لدراستها؛ باعتبارها تحمل رسالة تشمل جميع القضايا الإنسانية على اختلاف المواضيع التي تطرحها الجدران، وتعكس فيها طموحات الأفراد وأحلامهم وآمالهم. وحاليا أصبحت العلامة البصرية “خطابا مخصوصا” . وباتت مدار اهتمام نظريات ومناهج مختلفة؛ كالإنشائية، والسيميولوجيا، والفينومينولوجيا، وعلم النفس، والسوسيولوجيا، وفنون التصوير والتصميم، وعلوم التواصل وغيرها.
وأضافت المتحدثة أن الكتابات الأدبية الجدارية تصنَّف ضمن دائرة الأدب الهامشي، التي أضحت، اليوم، من أقوى الخطابات الثقافية؛ لأن الهامش في الحقيقة هو أفصح من المركز. وقد أنتجت هذه الخطابات من قبل أصحابها دواعي نفسية أو اجتماعية أو سياسية وغير ذلك؛ فهي تنفس عن الروح وما يختلجها. كما إنها تعبير عن الثقافة الهامشية لمجتمع ما؛ كونها تشكل عمق الثقافة الجماهيرية؛ حيث تشير كثير من الدراسات إلى أن الكتابات الأدبية الجدارية هي صنعة جمالية جديدة في سبيل توصيل رسالة ما، وعادة ما تأخذ المفتوح من الأماكن مرتعا لها وإن كانت تمارَس على حين غفلة من العامة، حتى لا يُعرف صاحبها، غير أنها منسية، بشكل كبير، على الصعيد النقدي.
وتابعت البروفيسور طاوطاو أن هذا العصر يطلَق عليه “عصر الصورة” التي تفوقت على الألسنة كأداة تواصل فعّالة. وتجاوزت الحدود الثقافية الفاصلة بين الشعوب لتقدّم خطابا قادرا على التأثير بقوة وعمق؛ إذ يشهد حاضرنا التواصلي تنويعا لتقنيات الخطاب وآليات تشكيله (قراءته وتأويله)، لا سيما والدراسات الحديثة عنيت بخطاب الصورة في مختلف الأجناس والعلوم والفنون؛ مثل الرواية، والخطاب الإشهاري (الإعلانات)، والصور المتحركة، والمسرح، والحضارة، واللسانيات، وبالتالي فإن اللغة البصرية، اليوم، هي المهيمنة مادام الطريق إلى قلوبنا وعقولنا يمرّ عبر عيوننا، وما نراه أشد تأثيرا.
الدكتور صلاح الدين باوية: كتابات شبيهة بأدب التوقيعات أو قصائد الومضة
اعتبر الدكتور صلاح الدين باوية من جامعة “محمد الصديق بن يحي” بجيجل، الخطابات الأدبية الجدارية رسائل موجَّهة للعامة في أغلب الأحيان، تعبّر عن انشغالات الطبقة المهمَّشة والمسحوقة في المجتمع، وهي تمثل أدب الهامش؛ أي أدب العامة من الناس، على عكس أدب المركز الذي يمثل أدب السلطة. تتميز بالاختزال والبساطة في اللغة والأسلوب، وهي شبيهة في هذا المنحى بأدب التوقيعات في العصر العباسي، أو قصائد الومضة في العصر الحديث.
وتكون عادة نثرية؛ لأن النثر أيسر من الشعر عند العامة. كما تغفل اسم الكاتب أو القائل أو المرسل خوفا من العقاب والملاحقة، مضيفا أن هذا النوع من الخطابات التي تتخذ من وسائلها الجدران والأماكن العامة، كان ولايزال عبارة عن متنفَّس حقيقي جراء ضغوطات سياسية واجتماعية واقتصادية متنوعة؛ لهذا غالبا ما تنحصر أبعادها الدلالية والفكرية في محاولة إيصال رسائل توعية وتوجيه لإحداث التغيير في منظومة ما.
وأوضح المتحدث أنه يمكن القول إن الخطابات الأدبية الجدارية ظاهرة إنسانية عالمية لا ترتبط بمجتمع من المجتمعات بعينه. كما إنها ظاهرة قديمة في تاريخها وليست حديثة. وبالعودة إلى أدبنا العربي في فترة الجاهلية، يمكننا بيسر استحضار تلك الجملة المتواترة “لا تصالح” التي كتبها على الصَّخر الملك المغدور “كليب وائل بن ربيعة التغلبي” بدمه لأخيه “الزِّير سالم أبو ليلى المهلهل”، فكانت مثار حرب البسوس التي دامت أربعين سنة، أو تلك الرواية لأبيات شعرية كتبها أبو الطيب المتنبي، على جدار، وقدَّمها لسيف الدولة الحمداني؛ بغية أخذ وزنها ذهبا.
وأكد الدكتور باوية أن النقد بشتى أنواعه، لم يتناول الخطابات الأدبية الجدارية بالتمحيص؛ تجلية لهذه الظاهرة المهمة. وأرجع الأمر إلى صعوبة جمع وتدوين هذا النوع من الأدب.
رشا دريش: فن مفتوح ولكن ليس بارزا
أما الأديبة والناشطة الثقافية رشا دريش من سيدي بلعباس، فقالت إن كل ما يعلَّق بالجدار يسمى “جدارية”، موضحة أن شعراء الجاهلية كانوا يكتبون المعلّقات، وتعلَّق على جدار الكعبة الشريفة. وسُميت بالمعلقات كما سُميت بالجداريات؛ لأنها على جدار الكعبة الشريفة.
واعتبرت المتحدثة الخطابات الأدبية الجدارية فنا يقدَّم للجمهور، لكن القليل من يفهمه، على حد تعبيرها؛ لأنه يحتوي على معان بين طياته. والجدارية الأدبية تعبّر عن الكثير، وليست مقيّدة، بل مفتوحة، ظهرت في عدة دول كوسيلة لإبلاغ رسالة للقارئ والجمهور المتعطش للأدب؛ فقد لا يصادف كتابا أدبيا، لكن يصادف جدارية أدبية، فيكون هناك فضول لفهمها. وأشارت دريش إلى أن الخطابات الجدارية متواجدة منذ القدم، فكان عبد المطلب بن هاشم يلقي الخطابة في قومه، وتُعلَّق كجداريات. وحتى في العصور القديمة ظهر هذا النوع من الأدب.
ومقارنة بالفن التشكيلي، قالت إن الخطابات الأدبية الجدارية ناقصة جدا، فيما عرف الفن التشكيلي قفزة مبهرة. وأعلن نجاحه في الجدارية التشكيلية، وهذا ما جعل النقاد لا يهتمون بالكتابات الجدارية. كما إنها ليست بارزة، ولم يدافع عنها أصحابها للارتقاء بها، وفرضها على المجتمع.

وردة زرقين